مقالاتمنوعات

الدكتور أشرف الدبش يكتب: ” قومية عربية جديدة ” 

في عالم تتسارع فيه التحولات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، لم تعد مفاهيم العلوم السياسية ثابتة أو مغلقة كما كانت تُقدّم في الكتب التقليدية. ما كان يومًا من المُسلّمات بات محلّ شك، وما كان يُظن أنه قاعدة راسخة صار موضوعًا للنقد والمراجعة. فالعلوم السياسية، بوصفها علماً اجتماعياً، تتأثر بالواقع كما تؤثر فيه، وتعيد إنتاج مفاهيمها باستمرار وفقًا لسياقات تاريخية وثقافية جديدة.

ومن بين هذه المفاهيم، يبرز مفهوم القومية العربية، والقومية العربية هي تصور فكري وسياسي يرى أن العرب يشكلون أمة واحدة، تجمعها وحدة اللغة، والثقافة، والتاريخ، والمصالح، ويجب أن يعيشوا في كيان سياسي موحّد أو على الأقل متكامل.والجدير بالذكر أن نشأه هذا المفهوم كانت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كرد فعل على السيطرة العثمانية ثم الاستعمار الأوروبي، فهي في الأصل مشروعًا تحرريًا وحدويًا، وبالرغم من الزخم الشعبي العام والقبول الإقليمي لها إلا أنها واجهت تحديات بنيوية وتاريخية. واليوم، ووفقاً المعطيات والتوجهات والسياسات الجديدة لمعظم حكام العرب بات من الضروري إعاده التفكير فيها، إمّا كمفهوم ثقافي مرن أو كمشروع سياسي يحتاج إلى مراجعة عميقة ليتلاءم مع معطيات العصر، وخصوصاً بعد التحول الجذري في أولويات السياسات الخليجية. ففي الفترة الأخيرة، تبنت دول الخليج سياسات مختلفة وخاصة السعودية، ومعها الإمارات وقطر سياسات محور ارتكازها يعتمد على المصالح الوطنية المباشرة، مثل التنمية الاقتصادية، الأمن الداخلي، النفوذ الإقليمي، والتحالفات الدولية المستقلة، بمعزل عن أي التزام فعلي بمشروع قومي عربي موحّد. ورغم استخدام بعض الخطاب القومي في المناسبات، إلا أن الواقع العملي يُظهر تحلّلًا واضحًا من التزامات الوحدة أو حتى التضامن العربي، لصالح استراتيجيات تقوم على السيادة الاقتصادية والتنافس على النفوذ، والتحالف مع قوى غير عربية (كالولايات المتحدة، الصين، تركيا، وحتى إسرايل)، وإدارة ملفات النزاعات العربية ،كاليمن وسوريا وليبيا والسودان بمنطق المصالح لا بروح قومية جامعة.هذا التحول يضعنا أمام حقيقة واضحة: القومية العربية لم تعد تعبّر عن المزاج السياسي الرسمي في كثير من العواصم العربية، بل تحوّلت إلى فكرة ثقافية أو شعارتية من الماضي، مما يُحتّم إعادة تعريفها لتكون أكثر واقعية ومرونة، القومية العربية اليوم ليست وحدة سياسية مستحيلة، ولا حنينًا لزمن مضى، بل مشروع تضامني حضاري متعدد المستويات، يسعى لتقوية الروابط بين الشعوب العربية من خلال التعاون لا الإكراه، والاعتراف بالخصوصيات لا إنكارها، والعمل العقلاني لا الخطابة الحماسية.

 الخلاصة: لقد تغيّر الواقع العربي، وتبدّلت الموازين والمصالح، ولم يعُد ممكنًا التمسك بمفاهيم قومية جامدة وُلدت في زمن مختلف. لكن ذلك لا يعني التخلي عن الروابط العميقة التي تجمع الشعوب العربية، بل يدعونا إلى إعادة بنائها على أسس جديدة،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
advanced-floating-content-close-btn (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
advanced-floating-content-close-btn (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});