أخبار عاجلهمقالاتمنوعات

الدكتورة روحية مصطفى تكتب: من رقص إش إش إلى عزف سامح حسين

من رقص إش إش إلى عزف سامح حُسين ..
يتجلى ضمير المجتمع

لا شك أننا جميعًا، وبلا استثناء، قد سمعنا أو شاهدنا—ولو في الفواصل الإعلانية—ما تقدمه لنا شاشات رمضان، تلك الفواصل التي أقسمت أن ترتل لنا فكرة المسلسلات والبرامج وكأنها شعائر مقدسة، تملأ أعيننا وقلوبنا وأسماعنا بأهدافها ومنهجها، حتى باتت وكأنها الغاية من هذا الشهر الكريم. في ظل هذا السباق المحموم، تتسابق البرامج والأعمال الدرامية على انتزاع اللحظة من انتباه المشاهد، في محاولةٍ لملء كل دقيقةٍ من الشهر الفضيل ببرنامج أو مسلسل أو إعلان، حتى أصبحنا نشعر أننا في موسم إعلانات تتخلله مقاطع من أعمال فنية هابطة وبرامج آيلة للسقوط.
لكن المفارقة الكبرى تكمن في طبيعة المحتوى الذي يُطرح على الشاشات، فبدلًا من تقديم أعمالٍ تتناسب مع روح رمضان وقدسيته، نجد أنفسنا أمام مواد تتأرجح بين تصدير العري والتفسخ، أو تمجيد الجريمة والعنف، أو تقنين الشعوذة والسخرية، وكأن شهر الرحمة بات ساحةً مفتوحةً لمحتوى يكرّس للسطحية، ويغيب عنه الوعي، فلا يخاطب العقل ولا يسمو بالروح.
وفي خضم هذه الساحة الغارقة في أحلام المخرجين، وآمال المنتجين، وطموحات الفنانين، وكأن شهر رمضان قد شُرِّع خصيصًا لهذه الصناعة، كادت الجرعات الثقافية والدينية أن تتلاشى من على شاشات التلفزيون، وكأنها أضحت إرثًا قديمًا لا يليق بالموسم. وبينما تتسابق الأعمال الدرامية على اقتناص الاهتمام، إذ يُطل علينا من نافذة التواصل الاجتماعي إنسانٌ مختلف، شخصٌ يدرك قيمة هذا الشهر الفضيل، ويؤمن بأن استثماره لا يقل أهمية عن استثمار المال والمتاع الدنيوي.
لم يأتِ صاخبًا ولا متكلفًا، بل جاء كنسمةٍ هادئةٍ تحمل قطوفه وقطايفه الرقيقة، البسيطة، المعبرة. فلم تكن كلماته مجرد محتوى عابر، بل دخلت القلوب قبل أن تدخل البيوت، ولمست الأرواح قبل أن تلامس الشاشات. استقبله الكبير والصغير، الرجال والنساء، الكهول والشباب، وكأن نسمات رمضان قد حملته إليهم بقبولٍ من الله، فوجدت كلماته طريقها إلى القلوب بلا استئذان.
لم تكن مجرد خواطر تُقال، بل كانت نافذةً تُفتح على أعمق المشاعر، ومحركًا للوجدان، ودليلًا مختصرًا لفهم أبسط العلاقات الإنسانية وسُبل نجاحها. ببساطة كلماته، ورقي رسالته، استطاع أن يكون بوصلةً تُعيد الناس إلى جوهر الأمور، بعيدًا عن زحام الضجيج الإعلامي والتشويش البصري الذي يُلقي بهم بعيدًا عن قيم هذا الشهر الكريم.
حين تستمع إليه، تستشعر جرعة رضا غير طبيعية، وكأن كلماته تلامس روحك برفق، فتبث فيها طمأنينة غابت وسط زحام الحياة. قد تجد نفسك أحد أبطال “قطايفه”، فتدرك فجأة أن حديثه ليس بعيدًا عنك، بل هو حكايةٌ تعرفها جيدًا، تجربةٌ مررت بها أو موقفٌ لامس قلبك، فتجده يقدّم لك الحل في أبسط صورة، دون تعقيدٍ أو تصنّع، مركّزًا على الفكرة الأسمى: إنسانية الإنسان في عالمٍ طغت عليه الماديات.
والأمر العجيب، بل الجميل، هو هذا الالتفاف العفوي حول ما يقدّمه هذا الفنان، رغم أنه لا يقدّم فكرةً جديدة، وإنما يعيد تقديمها بثوبٍ جديدٍ بسيط، أزاح الغبار عن ضمير المجتمع، سواء داخل الوطن أو خارجه. وكأن الناس كانوا يبحثون عما يعيد إليهم الثقة في القيم الأصيلة، وعن صوتٍ يُذكّرهم بأن الفضيلة والرقي والكلمة الطيبة ليست مفاهيم مندثرة، بل هي موجودة، وقادرة على أن تجعل الإنسان يجتاز مصاعب الحياة بأملٍ وسكينة.
حقيقةً، محتواه ليس مجرد حديثٍ عابر، بل هو رسالة هادفة، راقية، تناسب الشهر الفضيل، وهو فخورٌ بما قدّمه، لا لعدد المشاهدات أو الانتشار، وإنما لما ناله من دعواتٍ صادقاتٍ خرجت من قلوبٍ تأثّرت بكلماته. فكل حرفٍ قدّمه للناس كان بمثابة زهرةٍ تُزرع في حقول الخير، ومشعل نورٍ يُضيء الدرب لمن فقد الطريق.
وأجمل ما في تجربته الرمضانية هو أنه لم يسعَ وراء الضجيج، بل جعل الناس هم من يلتفون حوله، وكأن ضمير المجتمع كان يبحث عن فنٍّ نظيف يُعيد للروح توازنها وسط كل هذا الصخب.
هذه التجربة تؤكد أن الفنان الحقيقي لا يحتاج إلى أدوات ضخمة ليصل إلى قلوب الناس، بل إلى إحساس صادق، وكلمة مؤثرة، ورسالة هادفة. وسامح حسين، بإطلالته البسيطة وكلماته العفوية، نجح في تقديم نموذج لفنٍّ نظيفٍ يليق بشهر رمضان، ويليق بالمجتمع الذي يبحث عن بصيص أمل وسط زخم الماديات والمعاني الضائعة.
من خلال “قطايفه”، استطاع سامح حسين أن يعيد تعريف الرسالة الفنية، حيث قدم مواضيع تمس حياة الناس اليومية، وتطرق إلى العلاقات الإنسانية بأسلوب سهل ممتنع، بعيد عن التكلف أو الوعظ المباشر، فكانت كلماته بمثابة مرآة تعكس مشاعر المشاهدين وأفكارهم، وتقدم لهم الحلول بلمسة دافئة.
ليتنا نستفيد من هذه التجربة الرمضانية الناجحة، وندرك أن شبابنا لا يحتاج إلى التعقيد أو التنظير، بل إلى من يأخذ بأيديهم نحو الطريق الصحيح بأبسط الطرق وأصدق الكلمات..
#رمضانيات_١٦

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
advanced-floating-content-close-btn (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});
advanced-floating-content-close-btn (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});