مهما حاولنا النسيان أو التناسي تظل الذكريات محفورة بأعماقنا وتمر أمام أعيننا كشريط سينمائي ، فتفر من العين دمعة حزن أو فرح ومن الشفاه بسمة حنين لزمن حفر رونقه في ثنايا القلب والروح معا. فالدنيا تجمع الانسان بأشخاص أقل ما يقال عنهم أنهم كانوا نسائم البهجة والفرح خاصة عندما نكون في مقتبل العمر ، أي عندما كانت أيدينا تطال السحاب وتقطف النجوم نجمة نجمة ،باندفاعنا.. بثورتنا.. بعنفواننا .. بعنادنا وبغضبنا .
كنت انذاك في الثامنة عشرة من العمر ،أول سنة جامعية في جامعة بيروت العربية. كانت بيروت انذاك تلملم جراحها ، فشوارعها تنزف من الالم ،أبنيتها يسودها الدمار ، محلاتها ابوابها مشرعة أما ناسها يلملمون جراحهم النازفة ويرسمون البسمة على وجوههم لتغطي أوجاعهم والامهم .
أما الجامعة حينها كانت عبارة عن طوابق محطمة، مدرجات مهدمة، زجاج نوافذ متناثر، أبواب مكسرة ، وأوراق مبعثرة تطير في كل اتجاه بفعل الرياح. ورغم هول الكارثة التي حلت على ست الدنيا بيروت بدت كطائر فينيق يخرج من تحت الرماد وانطلقت عملية البناء والترميم ولملمة الجراح فالاصرار دفعنا الى الاستمرار رغم كل الماسي. فقدم أساتذةالجامعة من جمهوريةمصر العربية وبدأ تسجيل الطلبة ومن ثم التدريس.
هناك تعرفت على صبيتين من عمري وكلاهما من جنسيتين مختلفتين، احداهما كانت ابنة قنصل بلد عربي مقيم في بيروت. كلاهما كانتا كالبلسم لطيبتهما ورقتهما وبراءتهما وخفة ظلهما، كنا إذا اجتمعنا نسينا الهموم والمخاوف التي كانت تعتري اي انسان نجا من ويلات الحرب ،الضحك كان رفيقنا والأخوة في الحلوة والمرة كانت مظلتنا. كنا نحن الثلاثة نتسلل من الجامعة عندما نشعر بالملل وأيضا بقصد تعريف صديقتنا (ابنة القنصل)على بيروت. فكنا نخرج من الحرم الجامعي خلسة من بوابة ثانية غير الرئيسية خوفا من أن يرانا سائق سيارة أسرة صديقتنا الذي كان ينتظرها أمام الباب الرئيسي طيلة اليوم ، عندها كنا نذهب الى محلات الحلويات والمثلجات والمولات للتسوق من مال ادخرناه مسبقا وأيضا نتمشى على كورنيش البحر والسعادة تعلو وجوهنا الى ان يبدأ المطر بارسال زخات خجولة ناعمة فنسرع في خطانا للاحتماء تحت شرفة مبنى ونعود ادراجنا الى الجامعةقبل انتهاء الدوام بنصف ساعة. هناك نتفق على اكمال مشوار الفرح بغد اخر. وما زال السائق ينتظر أمام الباب الرئيسي حتى انتهاء الدوام ، كم في دفتر الذاكرة من حكايات ما بين السعادة و الحزن ، بين الإنتصار والإنكسار ،أقلب في دفتر الذكريات وصوت فيروز يداعب سمعي ” أحبك يا لبنان يا وطني ” وللحديث بقية.