دراسة أدبية بقلم حياة بربوش ..جسدنة الرّواية النّسائيّة.. عندما يبكي الرّجال
الحلقة الأولى.. عصر الجسد في الرواية العربية
بقلم: الباحثة: حياة بربوش
لقد أصبح موضوع الجسد – منذ فجر الحداثة – موضوعا ثقافيّا ، وتسارع الوعي به. فطرح على أكثر من صعيد في الكتابات الأدبيّة المعاصرة، ليبدو الأمر كما لو أنّنا نعيش ـ فعلا ـ عصر الجسد بكلّ أبعاده وأشكال حضوره ودلالاته. فقد غدا الجسد محورا تحوم حوله ضروب الثّقافات المعاصرة على اختلاف منطلقاتها ورؤاها الفكريّة وخطاباتها النّقديّة النّظريّة منها والإجرائيّة على حدّ السّواء. وتتجلّى علاقة الإنسان بجسده وفق منظورات عدّة أساسها المنظور الثّقافيّ الإجتماعيّ الذّي يختلف باختلاف الثّقافات والعصور و الموروثات الاجتماعيّة . وقد غدا الجسد هو المحدّد لهويّة الإنسان، بحيث تتمظهر تلك العلاقة الجدليّة التّي تصل الإنسان جسدا ، باعتباره عالما صغيرا بالكون العالم الأكبر، لأنّ الجسد في علاقته بالمكان يشكّل جملة من التّعبيرات الرّمزيّة التّي تختزل حركة الزّمان الكونيّ ـ نسبيّا ـ في عدد السّنوات التّي يحياها الجسد. ومن هذا المنطلق جاء اهتمام الفكر المعاصر بأبعاد الجسد وتمثّلاته. 1- الجسد وتحوّلات الماهية والمفهوم إذا كان الجسد يدرس في مجال العلوم الطّبيعيّة موضوعا في حدّ ذاته ، من حيث هو تشكيل ماديّ لصورة هيوليّة ذات خلفيّات لها مساراتها وغاياتها فإنّه في مجالات العلوم الإنسانيّة ، ومن منظور فلسفيّ ثقافيّ ينظر إليه ، باعتباره علاقة يكون الإنسان أحد طرفيْها. فالكائن الإنسانيّ يعبّر تعبيرا جسديّا عن كلّ علائقه مع العالم الخارجيّ. فالإنسان – وهو يصون جسده – يتمثّل أشتاتا من العلائق تكشف عن احترامه لماهيّة الحياة الوجوديّة المناقضة للموت.
وقد أسهمت التّكنولوجيا الحديثة في تعميق إحساس الإنسان بجسده وغيّرت من نظرته له. فوهبته إمكانيّة فهم جسده أكثر واحترامه. وهو احترام يصل إلى حدّ التّحريم في كلّ الأديان السّماويّة كما هو الحال في الوثنيّة أيضا. ففي الأسطورة اليونانيّة القديمة صبّت الآلهة لعناتها على مدينة كاملة لأنّها تركت جثّة أحد أعدائها في العراء بلا دفن تنهشها الطّيور الجارحة. ولم يكن التّحنيط عند الفراعنة إلاّ صورة راقية من صور احترام الجسد وتحريمه على الدّيدان والتّحلّل الطّبيعيّ. ونلمس أيضا بعض العبارات التّي تكتب في المقابر تحرّم العبث بجثث الموتى وتتوعّدهم بالعقاب إن همُ حاولوا نبش القبور والاعتداء على حرمة الأجساد في حال نومها الأبديّ. ويخرق كلّ اعتداء على الجسد القوانين الدّينيّة منها والوضعيّة. وهو اختراق يعبّر عن ذاك الخلل العميق في علاقة الإنسان بجسده أو بجسد الآخرين، حيث يضع هذا الاختراق الإنسان في منزلة الحيوان .فيهدم كلّ صور التّحضّر والتّطوّر البشريّ، ليؤكّد بالمقابل موقفا أساسه احتقار الإنسان للجسد والاستهانة به والرّغبة في تبديده بدلا من صيانته وتمجيده. ورغم تطوّر العلوم الطّبيعيّة إلاّ أنّ مقولة الجسد لاتزال تعدّ ظاهرة معقّدة يكتنفها الغموض والالتباس ، وذلك لتعقّد وسائل الاتّصال المعرفيّ والثّقافيّ ، التّي باتت في زمن العولمة تتعامل مع الجسد الإنسانيّ سلعة لا قيمة لها إلاّ بقدر ما تمثّله من ثروات ماديّة. وبذلك يفقد الجسد الإنسانيّ كلّ معاييره وقيمه الجوهريّة. فهُمّش إلى درجة التّشوّه و التّشيّؤ. ففقد قيمته واستقلاليّته وقدرته على امتلاك الإرادة الكاملة. فصار غاية لكلّ الغرائز البهيميّة.
وقد اختزن الجسد منذ عصور قديمة كلّ الرّغبات والمكبوتات. وينمو الوعي بالذّات كلّما ينمو الوعي بالجسد. وهو ما يؤكّد أنّ الجسد يكتمل باكتمال الهويّة. فيغدو الجسد – في ضوء هذا المنظور – نافذة على العالم الخارجيّ. فهو الّذي يرسم علائقنا مع الآخر والعالم. وهو ما سينعكس على العلاقات العاطفيّة والزّوجيّة تلك التّي ترنو إلى وضع قوانين تحمي الجسد من كلّ التّجاوزات والانتهاكات . وتستمدّ هذه القوانين شرعيّتها من المجتمعات ونظرتها للجسد. فهي نظرة تختلف باختلاف الثّقافات والحضارات يتجاذبها المقدّس والمدنّس ، وبين التّوحّد بالطّبيعة والاستقلال عنها. ومن هنا تمزّقت العلاقة بين الإنسان والكون بين الاتّحاد والاغتراب: اغتراب الإنسان عن الكون في درجة أولى واغتراب الجسد عن الرّوح في درجة ثانية. وهو ما ولّد صراعا على أشدّه وضع الرّوح في مكانة أرقى من الجسد. وقد ولّد الوعي بهذه الحقيقة الاضطراب والتّذبذب إلى حدّ التّناقض.فالثّقافات والدّيانات حرّمت العبث بالجسد ودعت إلى عدم انتهاك حرماته هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى يؤكّد الواقع عكس ذلك. فالجسد فيه مهمّش منتهك قابل لاسترقاق رغم أنّ النّص الدّينيّ راعى حاجات البدن (إنّ لبدنك عليك حقّا) وثمّة إشارات عديدة توثّق العلاقة بين الإنسان وجسده وتطالبه باحترامه. فالإسلام لا يفصل بين النّفس والجسد بل يعتبر كلّا منهما مرادفا للآخر. فالإشارة إلى تحريم قتل النّفس التّي حرّم الله قتلها إلاّ بالحقّ تتضمّن مجازا تحريما لكلّ ما من شأنه أن يهلك الجسد. فيغدو حضوره حضورا رمزيّا.
وأسهمت النّظريات والمقاربات السّوسيوثقافيّة والنّفسيّة والفنيّة في تشكيل منعطف يخرج بالجسد من الإرث الدّينيّ وأخلاقيات المجتمع إلى عالم آخر بيْنَ ذاتيّ (Intersubjectif) أضحى فيه الجسد مجرّد رمز داخل لغة التّشكيل الفنيّ ، ونجده أيضا في لغة البيان من خلال التّشابيه والاستعارات والكنايات.وهي خصوصيّات لا تعبّر عن جسدانيّة الجسد ، وإنّما عن الأحاسيس التّي تسكنه. ولم يؤخذ الجسد بمفهومه الجسدانيّ بعيدا عن وجهه الآخر وهو الرّوح إلاّ في أواخر عصر النّهضة الأوروبيّة عندما تناوله الرّسامون الأوروبيّون في لوحاتهم بشكل شبه مركزيّ في معظم منجزاتهم الفنيّة. فغدا مفردة تاريخيّة وثقافيّة ذات رمزيّة تمرّدت على كلّ المواضعات الاجتماعيّة والدّينيّة والحواجز العقليّة. فجاء ذاك التّواشج القويّ في الأعمال الفنيّة بين الشّبق بكلّ دلالته وأبعاده والصّوفيّ بكلّ قيمه ومثاليّاته. وهو تناقض جامع بين اللّذة والألم والمقدّس والمدنّس. إنّها ثنائيّة احتكم إليها الجسد مذْ خلق. فالألم يرتقى به ويطهّره ويُؤَنْسِنُه، واللذّة تدنّسه وتُحَيْوِنُه (تجعله حيوانا).
وقد يغدو الجسد في المنظورات الفنيّة والمدارس التّشكيليّة محرابا مقدّسا له طقوسه وصلواته المغايرة والمستفزّة الّتي لا تحكمها مقاييس. فتكون مغامراته ناشدة الدّيمومة رافضة كلّ المعوّقات التّي من شأنها أن تفسد عليه صفاءه وألقه وعنفوانه. إنّه دليل عنفوان الوجود والقيم والجمال يثير أسئلة حول ماهيّته ومساراته ورهاناته وصيرورته.
وإذا ما أردنا أن نحدّد دلالة الجسد، فإنّنا سنلمس سجلاّت نظريّة عديدة ومتنوّعة. فالمجال الماورائيّ يعتبر الجسد موطن الشّرور وبؤرة الدّنس والرّذيلة. وقد دلّ هذا السجلّ عن تلك النّظرة التّي تقوم على الاحتقار والامتهان. فهي تتعامل مع الجسد باعتباره ضربا من الحضور المخجل ، الذّي يجب التّحكّم فيه وإخماده وقبْر كلّ رغباته وقهر نزواته. أمّا السجلّ الخلقيّ فهو لا يرى أنّ الوعي هو بالضّرورة السّمة المميّزة للإنسان ، بل إنّ الإنسان هو رغبة ووعي. ومن هنا يصبح الجسد قوام الوجود. وتغدو ماهية الوجود الإنسانيّ محدّدة برغبته في الدّيمومة من خلال قوّتيْن متدافعتيْن: الفكر وأساسه الحركة والجسد وأساسه السّكون. ويأتى مجال علم أصول الحياة (Généalogie) ليعتبر الجسد المرجع الأصليّ لكلّ القيم. فهو » كليّة عضويّة« بتعبير نيتشة متآلفة من قوى فعل تؤدّي إلى تمجيد كلّ ما هو حيويّ وغريزيّ وقوًى ارتكازيّة تفضي إلى استهجان الحياة ، باعتبارها حقيقة سمتها الثّبات المجاور المجسّد لمنظومة من العلاقات تجمع بين التّناغم والتّضاد.
2- الجسد الأنثويّ وانفتاح أفق التّأويل إنّ الجسد الأنثويّ تعالقت فيه عديد الثّنائيّات المخصِبة للنّص الأدبيّ عموما والرّوائيّ خصوصا.فقد زاوج بين الألم واللّذة، والخصب والعقم ، والجمال والقبح، والفعل واللاّفعل،إنّها تقاطبات فتحته على بوّابات مشرعة على أكثر من أفق تأويليّ.فكلّ خطاب مهما كانت مشاربه،فإنّه بالضّرورة »ينتج جسده ويمنحه تسميته وتقاطيعه وملامحه وطاقاته التّعبيريّة والدّلاليّة.فيصير الجسد أجسادا مفهوماتيّة يحيل كلّ منها على حقل إيحائيّ تتناوب اللّغات على ملئ بياضه حسب شروط التّداول العامّ والخاصّ« (1) ،وذلك بأشكال متباينة لترسم تخومه وحقائقه وإشكالاته وأبعاده انطلاقا من مرجعيّات نظريّة وأجهزة مفاهيميّة وإجرائيّة متباينة. وانطلاقا من الجسديّ تتأسّس تلك الأبعاد التّراكميّة الوثيقة الصّلة بالبُنى الفوقيّة والتّحتيّة للفضاءات والسّياقات ، التّي تهبه بالضّرورة بطاقته الدّلاليّة. وهي دلالات ذات تعرّجات لغويّة تتجدّد وتتعدّد بتعدّد قنوات الرّؤيا وزوايا المؤسسات التّي تقنّم وجوده الوظيفيّ والمجازيّ وتحقّق دائرة انكشافه. ولم ينفلت الجسد الأنثويّ عبر مساراته الطبيعيّة والاجتماعيّة من مفاهيم فرضتها الأعراف. فصار حاملا تبعا لذلك عديد التّقاطبات التّي تتجاذبه. فهو يتمزّق بين الألم والحلم،والطّبيعيّ والثّقافيّ، الطّهارة والّدنس…. وتنضاف إلى آلام الجسد الأنثويّ الماديّة آلام أخرى معنويّة تجعل من جسد الأنثى عورة لأنّه مكمن الشّهوة ومصدر الفتنة وباب للشّيطان ومسرب الزّلات والخطيئة والدّنس. وهذه الصّورة لن تعرف لها دلالة إلاّ إذا رسمنا نقيضها، وذلك حتّى تصطلي المرأة الأنثى بعقدة الذّنب ، إن هي لم تصن جسدها، ولم تزهد فيه ، وفيما يثيره من شهوات تغتالها في الصّحو والمنام ، وذلك حتّى لا يجلب لها بفتنته الخوف والعار والنّدم. وتسهم هذه العناصر مؤتلفة في شعور المرأة بالاستلاب الجنسيّ والاغتراب الفكريّ. فقد عمدت المجتمعات العربيّة إلى اختزال المرأة في حدود جسدها عموما،وفي عذريّتها خصوصا. وهو ما جعلها تعيش حالات من التوتّر في كلّ مرحلة من مراحل وجودها. فيصير جسد المرأة جسدا مقيّدا تاريخيّا ، إنّه جسد مُؤَسّس. وقد اتّبعت مؤسّسات السّلطة آليات لتقنين مهام الجسد الأنثويّ وضبطه سواء على مستوى الفعل أو الخطاب ، وذلك بالزّجّ القسريّ به في مجموعة من المؤسّسات الاجتماعيّة على اعتبار أنّ هناك تواطؤا مسبقا بين إرادتيْ المعرفة والسّلطة ، حتّى تكثّف من إنتاجيّة الجسد (النّسل) وتلجم موسيقاه الدّاخليّة. وتُحدث هذه الآليات ـ وهي تنكتب ـ على جسد الأنثى جراحا وندوبا تبرأ ثمّ تعود لتبدوَ غائرة أكثر فأكثر. وهكذا دواليك الألم يهدم الفرج بداخلها واليأس يكبّل طيور الأمل السّاكنة في مملكتها. فجاءت لغة خطابها لغة الوشم بالجسد ترسم سيمياءه فنيّا ودلاليّا.
ويتمظهر حضور الجسد سواء في واقعيّته أم في تعاليه ، من خلال ذاك الرّياء المزدوج سواء عندما يُسْتر أو عندما يُعرّى. فهو يستر رياءً عندما تستره كلّ المؤسّسات فتغلّفه بالقوانين والموانع والمحرّمات، ويكشف رياءً عندما تخترقه الكتابة قصدا. فتعيد إنتاجه إنتاجا لغويّا أدبيّا. ويظلّ الجسد بين السّتر والعريّ ، عاصفا ممتنعا عصيّا مبهما مفعما بالرّمزيّات في طقوس احتفاليّة يهتكها النّص الإبداعيّ، الذّي تبدعه المرأة لتعبّر عن همومها الإنسانيّة وهواجسها الكامنة في أعماقها عبر تداعيات اللّغة وعلاقاتها اللّونيّة المتفجّرة ، وأساسها التّناغم والتّآلف.
3- الجسد الأنثويّ في الشّعريّة الأدبيّة يحقّق الجسد الأنثويّ في الكتابة الأدبيّة دلالات متعدّدة منها: الدّلالة الفنيّة ، التّي لها علاقة وطيدة بخيارات المؤلّف ، ومنها الدّلالة الاجتماعيّة ، التّي يتمّ إنتاجها في علاقة المتلقّي بالنّص الأدبيّ. فالكتابة الأدبيّة بهذا المنظور فضاء توليديّ وتحويليّ للجسد. فالنّص »مسكن تخييليّ للجسد، فيه يتجسّد ويحقّق وجوده المتخيّل«(2)، ومنه »يستمدّ إيحاءاته الرّمزيّة وحيويّة علاقاته بالعالم الخارجيّ كما بالعالم الدّاخليّ. فهو إذ يمرّر عبره الأحاسيس والعواطف يجعل من ترابطها المروآيّ وسيلة يتمكّن من خلالها من إنتاج أثره الفنيّ« (3)، الذّي يشكّل بحضوره صورا وعلائق ذات علاقة وثيقة بالسّياقات التّي تنتجها ، لأنّ الشّخصيّات في الكتابة الأدبيّة تكتشف العالم والآخرين عبر مختلف مجالات حضور الجسد.